بقلم: فايل المطاعني
إنه الشيخ العلامة سعيد بن سالم بن عبدالله المعلم العبري، رحمه الله رحمةً واسعة. من سلالةٍ نقية، من أولاد علي بن مسعود العبريين، خرج إلى الحياة في بلدة العراقي بمحافظة الظاهرة، فعاش فيها ومات عنها، لكنها لم تمت عنه، فما زالت حكاياته تُروى، وسيرته تُذكر بخشوع.
حين كان القرآن رفيق الطفولة
نشأ الشيخ سعيد نشأة إيمانية نادرة. لم تكن طفولته مثل غيره من الأطفال، بل كانت محفوفة بالآيات، مشبعة برحيق الحديث، تحرسها الملائكة وتباركها السكينة. بدأ حفظ القرآن الكريم وهو لم يُكمل الحادية عشرة، وكأن قلبه فُتح من الداخل ليُسكب فيه نورٌ لا يُطفأ.
ومع مطلع شبابه، حين بلغ العشرين، لم يكتفِ أن يحمل القرآن في صدره، بل قرّر أن يُضيء به دروب الآخرين. فتحت شجرة مانجو في قرية العراقي، جلس يُعلّم الأطفال والبنات، دون مقاعد ولا سقف... كان قلبه هو السقف، وكانت الأرض المصلاة، وكانت المانجو شاهدةً على درسٍ يبدأ بالبسملة وينتهي بالدعاء. حتى عُرفت تلك الشجرة باسم "إمباة المعلم"، ولا تزال شامخةً تروي ما لا يُروى.
صوت الجمعة وعين الوقف
لم يكن فقط معلمًا، بل كان خطيبًا لا يشبه الخطباء. في جامع العراقي، كان صوته يصدح يوم الجمعة كأنه يوقظ الأرواح النائمة، ويبث فيها نور الفقه، وصدق النصيحة، وجمال الخطاب. لم تكن خطبه تقليدًا، بل كانت حياةً تُقال. وكان إمامًا للصلوات، من صلاة العيد إلى الصلاة على الجنائز، لا يعتذر، لا يغيب، لا يتأخر.
وحين تساقطت الأمانات على كتفيه، لم يتردد. تولّى أموال الوقف، وأمور الأرامل، وشؤون الأيتام، وكأنما قُدّر له أن يكون رجل الناس حين يتفرق الناس. كان مرجعًا في الدين، وصوتًا للحكمة، ووجهًا يُستبشر به. يُقال إن أحدهم حين يحتار، يذهب إلى الشيخ سعيد ليسمع منه، لا ليأخذ فتوى فقط، بل ليأخذ راحة.
الوالي وثقة الدولة
حين تولّى السيد سعود بن حارب البوسعيدي ولاية عبري عام 1953، لم يُطل النظر كثيرًا قبل أن يضع ثقته في الشيخ سعيد. أوكل إليه مسؤوليات لا تُلقى إلا على أصحاب الهمم: كتابة الصكوك، إصلاح ذات البين، إدارة أموال الوقف، الفصل في المشكلات، وعقد القِران. وكان يخاطبه بلقبٍ لا يُقال عبثًا: "الشيخ الأجل الأمجد الثقة".
بل كان الشيخ سعيد بمثابة صندوق الأسرار لبلدته، مستشارًا للحكومة، ومضيفًا للولاة، ومصلحًا بين المختلفين، يربط بين الناس كما تربط الحروف الكلمات، حتى صارت العراقي لا تُذكر إلا ويُذكر هو معها، كأنهما خُلقا معًا.
رفقة العلماء ورجاحة الكبار
وكان له من الصحبة ما يُرفع به المقام، فقد جمعته علاقة أخوية وروحية بسماحة الشيخ الجليل إبراهيم بن سعيد العبري – المفتي العام السابق للسلطنة – وكانا كفرعين من شجرة واحدة، يتظلل بها الناس حين تشتد الرياح، ويأخذون منها الثمار حين يضيق الزمان.
حين صمتت العراقي
في عام 1986، توقفت خُطى الشيخ في مستشفى تنعم، وأسلم روحه بهدوء العارفين. دُفن في مقبرة العراقي القديمة، لكنه لم يُدفن في قلوب الناس. بقي ذكره في كل بيت، في كل دعاء، في كل صلاة يُفتتح فيها اسم “المعلم” بدعوة مغفرة.
ولم تمت إمباة المعلم، بل بقيت كشاهد حيّ على زمنٍ كان فيه العلم يُغرس في الأرض ويُسقى بالنية الخالصة
خاتمة: ما بعد الشيخ
ليس كل من مات غاب، فبعضهم يبقى حيًا في التفاصيل... في ظل شجرة، أو رائحة مصحف، أو دعاء أرملة، أو حرفٍ تعلّمه طفل قبل عقود.
كان الشيخ سعيد المعلم رجلًا من طرازٍ نادر... لم يكن يُحب أن يظهر، لكنه حين حضر، أضاء.
وما أجمل أن يُقال عن الإنسان بعد رحيله:
"كان نورًا... ولم ينطفئ."
رحمة الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته
ردحذف