قصة نادية..الفصل السادس 

  بقلم : فايل المطاعني 

الظل

في الساعة الثالثة صباحًا، ساد الصمت المطبق جناح الأمراض النفسية، إلا من أزيز أجهزة المراقبة، وضوء خافت يتسلل من تحت أبواب الغرف.

في غرفتها، كانت "نادية" تجلس على الأرض، وظهرها مسنود إلى الجدار البارد. كانت عيناها تحدقان في الفراغ، بينما تمسك بين يديها دمية قديمة وجدتها تحت السرير. كانت تحرك شفتيها بصوت خافت لا يسمعه أحد، وكأنها تخاطب شيئًا غير مرئي.

همست: هل عدتِ؟... كنت أعرف أنك ستعودين.

فجأة، انقطع التيار الكهربائي للحظة قصيرة، ثم عاد. في تلك الثواني، شعرت الممرضة "علياء" بشيء يتحرك بسرعة في الممر. ركضت نحو الغرفة، فتحت الباب ببطء، ووجدت نادية في مكانها، وعيناها موجهتان نحو زاوية الغرفة.

قالت علياء وهي تقترب: نادية؟ هل أنتِ بخير؟

ردت نادية بصوت منخفض: لا تقتربي... إنها هنا.

تجمدت علياء في مكانها... من؟ من هنا يا نادية؟

أشارت نادية إلى الزاوية وقالت: أختي... نجاة. جاءت لتحذرني.

أدارت علياء رأسها نحو الزاوية، لكنها لم ترَ شيئًا. عادت بنظرها إلى نادية، فوجدت عينيها ممتلئتين بالدموع، ولكن وجهها كان جامدًا، لا أثر للانفعال... فقط خوف قديم يعود للسطح.

قالت نادية بصوت مهتز: قالت لي... "احذري من فؤاد". قالت إنها لم تمت في القبو... قالت إنه دفنها وهي لا تزال تتنفس.

ارتعشت علياء، وأمسكت بيد نادية بلطف: نادية... لا أحد هنا. أنت مرهقة فقط، يجب أن تنامي.

لكن نادية هزت رأسها بعنف وهمست: النجاة... لا تأتي إلا في الظلام. الضوء يطردها.

ثم نظرت إلى النافذة وقالت: لا تطفئوا الأنوار الليلة... أرجوكم.

وبينما كانت علياء تهمّ بالخروج، نظرت مرة أخيرة إلى الزاوية. للحظة قصيرة، أقسمت أنها رأت ظلاً يتحرك.

يتبع...

الفصل السابع .. الزيارة

في صباح اليوم التالي، كانت الدكتورة بدرية تجلس في مكتبها، عيناها شاردتان في تقرير حالة نادية، وكأنها تحاول فك شيفرة لم تُكتب بالحبر، بل بالخوف.

رنّ جرس الباب.

رفعت رأسها وقالت بهدوء:تفضل.

دخلت امرأة في منتصف الثلاثينات، أنيقة رغم ملامح الإرهاق التي طغت على وجهها. مدت يدها قائلة:

صباح الخير دكتورة، أنا نجلاء، صديقة نادية منذ الطفولة.

تبادلت معها الدكتورة التحية، وأشارت لها بالجلوس.

تفضلي، نادية لم تذكر أنك زرتها من قبل.


ابتسمت نجلاء ابتسامة باهتة وقالت: في الحقيقة... لم أجرؤ. كنت خائفة من رؤيتها بهذه الحالة. لكن الليلة الماضية حلمت بها. كانت تبكي وتقول لي: "أخبريهم أني لست نادية". فقررت أن آتي.

نظرت إليها الدكتورة بدرية بتركيز:هل قالت لك ذلك في الحلم؟

نعم، وكانت ترتجف... كانت ترتدي نفس الفستان الذي كنا نرتديه يوم وفاة والدها. أتذكره جيدًا.

سجلت الدكتورة المعلومة، ثم سألت: هل كانت نادية قريبة من أختها نجاة؟

ابتسمت نجلاء بحزن:كانتا متلازمتين. توأمان لا ينفصلان، لكن الفرق بينهما أن نجاة كانت دائمًا خجولة، منطوية، تخاف من كل شيء... بينما نادية كانت الأقوى. وقعت نجاة في الاكتئاب بعد وفاة والدهما، ثم اختفت فجأة. قيل إنها سافرت للعلاج، ثم... لا أحد تحدث عنها مجددًا.

سألتها الدكتورة بهدوء: هل رأيت نجاة بعد ذلك؟

هزّت نجلاء رأسها نفيًا: لا... لم أرها منذ أكثر من عشر سنوات.

صمتت الدكتورة لبرهة، ثم قالت: هل تمانعين في رؤيتها الآن؟ نادية؟

ترددت نجلاء قليلًا، ثم هزّت رأسها بالموافقة.


بعد دقائق، كانت تقف أمام الزجاج الفاصل لغرفة نادية، تراقبها من بعيد. نادية كانت جالسة على السرير، تمشط شعر الدمية التي لا تفارق يدها.

قالت نجلاء بصوت خافت:دكتورة... هذه ليست نادية.

نظرت إليها بدرية بدهشة: ماذا تقصدين؟

قالت نجلاء بثقة: حتى طريقة جلوسها... تلك نجاة. أقسم أنها نجاة.

ثم تراجعت خطوة إلى الخلف، وكأنها شعرت بشيء غريب، وهمست: هذا المكان... يختبئ فيه أكثر مما يُرى.

يتبع...

الفصل الثامن : التحقيق

في قسم شرطة العاصمة، جلس المحقق "رائد الجسّاس" أمام مكتبه الخشبي العتيق، يقلب بين أوراق ملف قديم عليه ختم "سري جدًا". فتحه بتردد، وبدأ يقرأ:

 "نجاة صالح، ٢٨ عامًا... اختفاء غامض منذ ١٠ سنوات، لا أثر لجثتها، لا سجل سفر، لا بلاغ رسمي... الحالة أُغلقت: ظروف غامضة – محتملة الانتحار".


دخل مساعده "سامي" يحمل بيده ملفًا آخر وقال: سيدي، تلقينا اتصالًا من مستشفى الأمل... دكتورة تدعى بدرية علي، تريد فتح ملف اختفاء قديم مرتبط بمريضة لديهم. تقول إن هناك خطأ في هوية المريضة.

رفع رائد حاجبه وقال: خطأ في الهوية؟ بعد ستة أشهر من الإقامة في المستشفى؟

تقول إن المريضة تدّعي أنها ليست نادية، بل أختها نجاة. والأغرب أن صديقة قديمة تعرفت عليها وأكدت الأمر.

سحب رائد الملف من يد مساعده، وقرأ الاسم: فؤاد سالم؟... زوج نادية؟

قلب الصفحة وتوقف عند سطر مكتوب بقلم أحمر: "لم يُبلّغ الزوج عن اختفاء شقيقة زوجته... رغم معرفته المسبقة بحالتها النفسية".

ابتسم المحقق ابتسامة خفيفة وقال: هذا ليس مجرد خطأ هوية يا سامي... هذه بداية خيوط جريمة قديمة.

ثم نهض وقال بحزم: جهّز نفسك. سنذهب إلى المستشفى.

في مستشفى الأمل – ظهرًا

كانت الدكتورة بدرية في انتظارهم. أدخلتهم إلى مكتبها وقدمت لهم تقارير نادية النفسية، وأشارت إلى ملاحظات مهمة:

المريضة تتحدث كثيرًا عن "قبو" و"دم" و"أنفاس أخيرة"، وتقول إن فؤاد دفنها حيّة.

رد المحقق رائد بتركيز: هل توجد أدلة على ذلك؟ أم مجرد هلوسات؟

لا دليل مادي بعد... لكنها تفاصيل دقيقة تكررت عدة مرات، كما أن النغمة التي تتحدث بها لا تشبه الهذيان... بل الاعتراف.

سأل سامي: وماذا عن الزوج؟ هل زارها كثيرًا؟

هذه أول زيارة له منذ دخولها المستشفى. جاء فقط ليتأكد من أنها "صامتة".

صمت رائد لبرهة، ثم قال: أريد أن أراها.

قالت الدكتورة: لكن... لا يمكن مقابلتها مباشرة، حالتها النفسية قد لا تتحمل. يمكنكم مراقبتها من الغرفة الزجاجية.


وقف رائد أمام الزجاج، يحدّق في نادية وهي ترسم على الحائط بقلم صغير، رسومات مبهمة: باب، قبو، وسيدة ترتدي ثوبًا ممزقًا... وعين واسعة تنظر من فتحة صغيرة.


تمتم رائد:هذه ليست رسومات عبثية... هذه ذاكرة تحاول النجاة.

ثم التفت إلى سامي وقال: افتح ملف نجاة من جديد... وراقب فؤاد سالم. أعتقد أن الوقت حان لننزل إلى "القبو".

يتبع...

تعليقات