بقلم: فايل المطاعني
راقص المطر... حين يبكي العاشق وحده
ليست كل الحكايات تبدأ بـ"كان يا مكان"، فبعضها يولد مع أول زخة مطر، أو تنهيدة طويلة وسط الزحام، أو رقصة مجنونة لرجل وحده في منتصف الطريق...
بعض القصص لا تُكتب، بل تُنشد كأنها موالٌ حزين، أو دعاء يائس، يهمس به قلبٌ انكسر على اسم امرأة… كانت تُدعى "نورة".
هذه الصفحات هي فصل من "مذكرات رجل"، كُتب لا بالحبر فقط، بل بالدمع، وبوجع السنوات.
يقال في الأسطورة:
"من يُمعن النظر في ما يحب، يُصاب بالثمالة."
ولم أكن أعلم أن خطوي الصباحي إلى العمل، سيقودني إلى حكاية أثقلت القلب، ولامست حدود الجنون.
نحو "أمير العجلة"، حيث كانت السماء تبكي فوق رأسي... وهناك، بدأ كل شيء.
المطر يهطل بعنف، كأن السماء تسوي حساباتها القديمة مع الأرض، والناس تركض لتلوذ بأي مظلة.
ركضت معهم، دفعت باب الفيلا، أدخلت الكرسي، وهممت أن أغلق...
لكنني توقفت.
كان هناك رجل، يقف وحده في العراء.
فتح ذراعيه كمن يعانق المطر... لا، كمن يعانق الذاكرة.
كان يضحك!
ثم... بدأ يرقص.
رقصة "فالس" كأنها على أنغام خفية لعمر خيرت، يدور بخفة، كأن الأرض تحته لم تعد واقعية.
همس باسمٍ واحد: "نورة..."
ثم أغلق عينيه، وكأنها ظهرت أمامه، ترقص معه، تهمس له كعادتها:
"تسمعني حين تراقصني... كلمات ليست كالكلمات..."
ويرد عليها، في ذروة الحنين:
"كلمــــــــات..."
مشيت نحوه، قلبي يسبقني، لا أعرف أأشفق عليه؟ أم أغبطه على هذا الجنون العذب؟
أمسكت يده، دفعته برفق إلى الداخل.
سقط على ركبتيه، وانفجر باكيًا:
– لماذا خانتني نورة؟!
سامحتها... مرارًا... لأنني أحببتها أكثر مما ينبغي.
ألم يقولوا إن المحبّ يُسامح؟!
سامحتك نورة... فعودي، كما كنتِ تفعلين كل مرة.
جلست إلى جواره، صامتًا، لم أملك لغة تُواسي رجلاً عاشقًا، ذاب في حب لم يُنصفه.
نظر إليّ وقال:
– المطر كان موعدنا...
كانت تمسك يدي، أضعها خلف ظهرها، وندور...
خطوة أمام، خطوة خلف...
أنفاسي تختلط بأنفاسها، فلا أدري أين ينتهي أنا وأين تبدأ هي.
ثم صمت طويل.
نظر إلى البعيد، كأنه يفتّش في الماضي عن شيء ضائع.
– في إحدى الليالي... قررت مفاجأتها.
كان عيد ميلادها.
حملت الورود، والهدية، وصعدت بهدوء.
لكنني سمعت صوتًا... همسات رجل.
ركضت.
ثم...
لا شيء بعدها.
"نورة" ماتت... بطلق ناري في الرأس.
والرجل... لا يزال في غيبوبة.
قالوا إنني أنا من أطلق النار...
من بندقية كانت هي قد أهدتني إياها ذات يوم!
لم أذكر شيئًا.
لم أكن أعي ما جرى.
حكموا عليّ بالسجن خمس سنوات.
في الزنزانة، لم أكن أنام.
كنت أحادث جدرانها بصوتها، أسمع ضحكتها تملأ الفراغ، وأرقص معها كل ليلة... فوق بلاط بارد، ووجدان محترق.
أعدّ الأيام… لا شوقًا للحرية، بل أملاً بلقائها... حتى لو خيالاً.
واليوم... خرجت.
اسمح لي يا سيدي، أن أعود لرقصتي.
أريد أن أودّعها... بطريقتي.
عاد إلى المطر، وبدأ يدور، يضع الطين على رأسه، ويردد بصوت مخنوق:
"أنا بتبع قلبي
بس ما عليّ من الناس
كذب اللي يقولون
المحبة لها مقياس
أحبّها من زمان الصِّبا
وأقدم
أحبّها قبل لا يُخلق
أبونا آدم..."
وفي صباح اليوم التالي،وصلت سيارة الإسعاف.
أخذوه إلى مستشفى "المسرة".. قيل إنه ظل طوال الليل يصرخ ويبكي: "نورة... نورة..."
بعض القصص لا تنتهي... لأنها لم تبدأ أصلًا.
وبعض الحب... لا يُشفى منه القلب،
حتى بعد الموت

مبدع
ردحذف