بقلم: زهرة الراسبي
في كل صباح افتح عيناي على عجلتي المعلقه في السقف ،وقد تعمدت أن أجعلها في الاعلى ،اذ يسقط شعاع بصري عليها عند بداية شروقها.
وفي كل صباح أظل مستلقيا لدقائق لأحدق طويلا في تفاصيل العجلة المتشققة لاستجدي تفاصيلها المنحوتة على صفحتها المتعبة من ذاكرتي الغير بعيدة، فعلى الرغم من الاضاءة الخافتة التي تسللت عنوة من وراء ستائر تلألأت شمس البكور خلفها ، إلا أن ذاكرة عيناي مازالت ترى تفاصيل تشققات العجلة وتعرجاتها الكبيرة وحكايتها المثيرة .
2
فتفاجئ لإنفكاك مفصل العجلة بصورة سريعة، أشعرتني برغبتها للتخلص من جمود العربه المتهرئة والجامدة في مكانها بمجمع مواد تدوير نفايات المعادن ،أما اهتزازها في مكانها لعدة مرات بعد الانفصال الشديد ما هي إلا وقفه للتفكير النهائي في المغادرة من هذا المكان المثير للإحباط، وهاهو مكان الكسر المؤدي للانفصال عن العربه ذو الزوائد الحادة مختوما في وسط العجله كنجمة شارة ثناء على بداية مشوارها ألاستبسالي .
3
ففي يوم ما أشرق قلبي فيه بتتبع هذه العجله بإهتمام مثير، منذ بداية تفككها من العربة، الى استقرارها في القمة،حيث ابتعدت قليلا عن أبي ورفاقه في مكان عمله لإدارة المواد المستعملة، لأراقبها بعيناي المتسعتان، ويداي المنقبضتان وشهيقي العالي، فقد اعتقدت للحظات أني أتابع سباق الهجن، إذ بدأت فيه العجلة بسباقها مع الزمن في تدحرجها من تلك المرتفعات من ركام النفايات المعدنية، فتملكتني رغبه ملحة في معرفه المكان الذي ستصل اليه هذه العجله ولا أدري ما سر هذه الاهتمام.
4
تلك الحجارة المدببه والقابعة بتربص عابس بانتظار مرور العجلة وكأنها زرعت بتعمد في طريقها، أدت الى إحداث شق عميق لا يتسهان به فيها ،الامر الذي أدى الى وجود تغير في طريقه سيرها السلس الى سير متعرج الا أن ذلك لم يمنع العجله من تقدمها في طريقها بثبات متسارع.
ولم تمهلها مجموعه الخردة تلك لمتابعة السير الثابت إذ اصطدمت بعنف بعجلتي الباسله فارتدت الى الوراء عدة سنتمترات لتعالج آلامها فتلك الخدوش العنيفه لم تكن سهلة بالنسبه لها فتوقفت لثواني عمتها لحظة هدوء غمرتها العجله بنظرة تحدي اتبعتها بدحرجة بطيئه تتسارع شيئا فشيئا لتعود الى المسار وقد زادت تشققاتها وخدوشها ،كما زادت من سرعتها بخط مستقيم تتبعها جيوش الغبار هاتفه لها بالاستكمال، ومازالت الحجارة تتعرض طريق عجلتنا ومازلت الخردة تبني جدارانا من المنع الا أن عجلتنا كلما اصتدمت بشيء بطء سيرها قليلا وزادت تشوهها بالتشققات والجروح و ماتلبث الا إن تتابع سيرها بكل ما أوتيت من قوه ،وتتزايد حبات الغبار خلفها وتزيد من هتافات التشجيع، وانضم لفريق المشجعين العلب المعدنيه التي تدق طبول الحرب كلما مرت بها العجله منذرتا بتحدي مستميت لانهائي .
5
وتدخل عجلتنا مرحله جديدة في السباق وهي مرحلة الطرق المنحنية، والحواجز المتفاوته، في الارتفاع والمتانة، وعجلتنا تستعرض في هذه المرحله مهاراتها المتنوعة في: رشاقة الحركة، وفهم دروب الانحناءات الماكرة ،وتخطي الصعاب، لترسم خلال سيرها لوحة بديعة، ملؤها الحركة، المنضبطة مع العائق، والذكاء الخبير لهذه المواقف، لأتأملها بتمعن وأنا أضع يدي على قلبي، لأهدئ من حركته النابضة بعنف، وكأني اشاركها في الوثب والقفز المفاجئ.
6
في غمرة تأملي، تعجبت من طريقة سيرها باستقامة ،رغم جميع الاعتراضات في طريقها : فهذه العجلة تتوقف لتتابع سيرها بنفس الطريق، وتتخطى الحواجز لترجع في نفس الطريق، وتدخل في الانحناءات لترجع في الطريق ذاته، كأن لديها بوصله ترشدها له، وقد وضعتها نصب عينها، فلا تنسى طريقها ولا تنسى البوصلة.
لم تبقى الا مسافه قصيرة وثواني معدودة حتى تصل العجله الى الارض الفسيحة من بعد تدحرجها المتواصل في جبل الركام المنفي ولم يبقى لي من قوه لاهتف أو حتى إصرخ أكثر،فاكتفيت بالجلوس فوق صخرة كبيرة وعيناي معلقتان في تلك العجله لاتابع رحلتها الجريئة
7
بدأت الطمأنينة تسري الى قلبي المتعب لقرب وصول العجلة، إلا أن تفاجئي بتلك الصخرة الغريبة التي ظهرت فجأة عند سفح جبل الركام!
كيف لم اللحظ وجودها من قبل ؟! أم أن احداً وضعها قبل قليل في خط سير العجلة؟ ليمنعها ويتحطم طموحها المتقد؟ فتوقف قلبي هنيهه ولمعت عيناي بعدما تسلل اليأس الى تيجان قلبي، وبدأت بالانسحاب بعدما غصتني العبرة ،فرفعت علم الاستسلام ، ولم يثنيني من إنسحابي البائس، إلا صوت ارتطام عنيف بتلك الصخرة أشبه بانفجار بركاني، كانت العجلة تثور مع حممه الى الأعلى ،وقد تفتت منها أجزاء تطايرت معها في الهواء ، وبأقصى ما استطيع فتحت عيناي لاتأمل متسمرا ذلك الانبعاج الذي تكون في جانب العجلة، فأصبح شكلها بيضاوي أقرب من كونه دائري، وعندها سكنت جيوش الغبار وطبول الحرب لتشهد اللحظات الاخيرة لحياة العجلة، لتنهي التشجيع وعجلتنا تعلو وتعلو بلا توقف حتى نادتها جاذبية الارض باستعجال، لتسقط مسرعة نحوها.
8
يا إلهي !! أيعقل أن تكون نهاية عجلتي الطموحة ،ارتطام ثاني بأرض فسيحة كانت حلمها لتتحول الى قبرها ؟!؟
وبلمحة البصر،كما لو خرجت من باطن الارض يداً خشبية، التقطت العجلة بقوة، لتتأرجح عدة مرات، لتستقرأخيرا في أعلى غصن في الشجرة، في القمه تماما، وللمرة الثانيه يظهر في طريق العجلة المتدحرجة عائق آخر، إنها شجرة كبيرة مخضرة ،ولكني لم الحظها من قبل في الارض الفسيحة !! ربما لبعدها عني أو لتركز نظري وأحاسيسي صوب العجله فقط، ولكن عائق هذه المرة لمنع السقوط ،وليس لإعاقة المسير، أي انها يد القدر التي تحمينا من السقوط بعد الأقدام المستميت لبلوغ الغاية، وتقودنا اليه
9
هبت النسائم ،وصفرت فئران الركام، فنهضت من الصخرة لأصفق بحماس لعجلتي التي استقرت في قمة الشجرة، ومن خلفي سمعت رفاق والدي في العمل يصفقون أيضا ،ويتعجبون من هذه العجلة التي انتقلت من ركام نفايات، الى أعلى قمة في شجرة مخضرة.
10
طلبت من والدي أن ينزل لي العجلة من أعلى الشجرة للاحتفاظ بها، فظهرت علامات التعجب على وجهه وعلى وجوه زملائه من حوله !. ومنهم من ضحك ساخرا لمطالب الاطفال الغير مفهومة، فجلب لي أحدهم عجلة أكثر سلامه ولمعانا من عجلتي، فأبيت إلا اياها ،وفي البيت بعد مجادلات بيني وبين اخي الكبير وأفق أخيرا على تعليقها في سقف غرفتنا ،رحمه لدموعي وإصراري، فقد أردت أن أنقش ذكرى طموح عجلة، أوصلها الطموح الى ما فوق الطموح نفسه.
انتهت
تعليقات
إرسال تعليق