أنا أنا..1

بقلم : زهرة الراسبي


ممدداً على فراش بالي كجسده المتهالك ذو الانحناءات المتعاقبة والعروق البارزة ، يمد يداً نحيلة محاولاً سحب لحاف رقيق - أبلى حسناً حتى بلى- ، فحاول شدهُ بيدٍ راجفة فلم يقوَ عليه ِ فاستسلم للفحات البرد لتلسعه الزمهريرَ . فألتفت ببطء نحو الباب علَ أحدهم ينسى ويفتحه سهوا فقد يئس من تذكرهم إياه!!!

تعبت عيناه من التركيز على باب الأمل، فبدأت تريه أشياء ذات تفاصيل مموهه ، لا حدود لها ولا ألوان ثابتة ! فظهر أحدهم بمعالم غير مفهومة . فأسر في نفسه مبتهجا: ترى من تكون؟ ربما صغيري المدلل ؟ أم أحمد الشقي ؟ لا لا أعتقد انه أطول بقليل من أحمد ؟ عرفته! انه سامي المثقف .....ولكن كأنه يقصر قليلا بل يقصر أكثر من اللازم .........أو انه يختفي ......أو......فصمت تفكيره عن التّحير فقد أدرك أخيرا انه مجرد خيال رسمته عيناه المتعبتان وأحلامه الحانية ، فأسلم عيناه لنوم عميق بعدما أتعبه التفكير وأضناه الجوع ، وفي غمرة نومه توالت عليه العديد من الصور المشرقة منها والمعتمةً ، من ثغرات الماضي ، فتارة تمر صورة طفل مشاغب يقفز مرحا فوق سريره وتارةً أخرى تمر صورة دافئة لتجمع الأولاد حوله عند المدفأة بينما تعد الأم طعام العشاء وتمر صورة عابرة تلقي بظلالها على القلوب الظامئة، لخلاف شرس بين الأب وبين العم انتهى بموت العم وانكسار حاد لضمير الأب!!! وتمر صورة اشد ظلاما وأقسى ظلالا حين دخل مسرعا حيث ترقد الزوجة وقد قبض بكلتا يديه على الدواء والأمل الذي سقط عند سقوط دموع فلذات الكبد لفقد قلب البيت ونبضه .

قطع توالي الصورعليه ضربة مجلجلة لباب الغرفة ودفعه بقوة . فشُد بصره واتسعت عيناه عندما رأى منظر رجل يمشي بتثاقل مقصود ...فحدث نفسه: أنا أنا ...نعم انه أنا !!!.

تخيل أن تمر جميع الأخيلة أمامه إلا خياله !!! وبالأحرى تلهف الى رؤية واحد من أبنائه لكنه لم يتوقع رؤية نفسه : يا الهي انه أنا !! نفس الملامح والتقاسيم !! فأرسل عينيه وقلبه للتأكد من المنظر ورصد كل ما يحويه : نفس العبوس والانقباض !! نفس النظرات الحامية والازدراء !! انه أنا !!! انه انا !!! لم يختلف عني قدر أنمله !! فرصد تحركاته متعجبا : لم يسلم عليَّ أو حتى يسأل عن حالي !!! وهاهو يحمل صينيه فيها الشحيح من الفتات، وهاهو ينزل إلى الأرض ليضع الفتات بالقرب مني لم ينحني لي أو ينزل رأسه احتراما !! بل اقترب للارض ليضع الصينيه كطاؤوس عظيم بشبابه وقوته وكبريائه مثلي تماما فليست هناك أي قواسم اختلاف فيما بيننا ، وهاهو يحاول تجاهل نظراتي وتجاعيدي ومرضي وكِبَري وفعل ذلك بنفس مستوى قدرتي السابقة تماما !! أمسكت يده وشهقت بصعوبة وعيناي تحاول أسره : بني....... لم استطع أن أُكمل وتركت المهمة لعينايَ لتشكيا له لهفتي ووحدتي وعجزي وكل ماعندى فلم تترك حواجز التجاهل أي مجال لتصيب سهام أعيني قلبه !! وبعد تأمله بازدراء لمعالمي الواهنة على عتبة الزمن اكتفى أن نطق ببرود وبابتسامه لا مبالية تلون محياه: استرح استرح.

نزع يده من يداي وانطلق بسرعة البرق إلى زوجته وأبنائه بنفس سرعتي ونفس ازدرائي منذ أربعين سنه خالية وبحجم دمعة أبي من ذلك الزمن نزلت من قلبي دمعة كبيرة انحدرت بين ثنايا خدي فلم يأبه بها غير الباب الموصد ، فأغمضت عينا اغرقتها الدموع، أنتظر حكم العادل لذنب ارتكبته بحق الغالي منذ أربعين سنه .


تعليقات