بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
في زمن السرعة، حيث تسود خوارزميات الذكاء الاصطناعي، تتعمق الهوة بين أفراد المجتمع، مُرسِّخةً طبقتين متناقضتين: غني يزداد ثراءً فاحشاً، وفقير ينوء تحت وطأة العوز المتزايد. لقد تلاشت ملامح الوسطية، وأصبح الهاجس اليومي للفقير تأمين قوت يومه الشحيح، فلا يضمن ليلته إذا أطعم صباحه. في هذا الزمن الغابر الذي لا يرحم، يتنعم أبناء الأغنياء بألوان المتع والترف، بينما يبحث أطفال الفقراء عن بقايا الكرامة بين أكوام النفايات وحاويات المزابل.
ومهما اشتدت الصعاب، وتكاثرت التحديات، وتفاقمت المحن، تظل البراءة النقية تحمل في طياتها أعمق معاني السعادة الحقيقية. تجدها متجلية في عيون الفقراء الصافية، وقلوبهم التي لم تُدنِّسها قسوة الحياة. هم يبتكرون أفراحهم من العدم، حتى أن حذاءً قديماً قد يتحول في أيديهم إلى كاميرا تصور لحظات سعادة لا يدركها أصحاب القصور.
لكن في خضم هذا الاختلال الظاهري، تبقى حكمة الله نافذة فوق كل اعتبار. فالحياة الدنيا ليست إلا ساحة اختبار وابتلاء للجميع. يُختبر الغني ببذله وعطائه، ويُمتحن الفقير بصبره وقناعته. وهنا تتجلى عظمة الخالق، حين يذكّرنا بأن الغنى الحقيقي يكمن في سلامة الروح ورضا النفس، حتى لو تجردت الأيدي من زينة المتاع.
لذلك، كان شكر النعم سُنةً واجبة على كلٍّ منا. يتجسد هذا المعنى جلياً في قصة نبي الله سليمان عليه السلام، ذلك الملك الرسول الذي لم تزده عظمة مُلكه إلا تواضعاً وشكراً لخالقه، فقال: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }.
فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}. وكثيراً ما يمتلك الفقراء من كنوز معنوية لا تُقدَّر بثمن، كالصحة والعافية والأمن والطمأنينة ودفء الروابط الأسرية، وهي نعم قد يُحرم منها أصحاب الثراء الفاحش الذين لا يجدون في قصورهم المترفة إلا سراباً خادعاً للسعادة الحقيقية.
تعليقات
إرسال تعليق